بسم الله الرحمن الرحيم.
الجدال يقصد به المحاجة أو المناظرة وإستعراض الاراء المدعومة بالحجج والبراهين التى تدعم رأى أحد المتجادلين أو تدعم وجهة نظره على نظيره الاخر، وقد جاء ذكره فى القرآن الكريم تارة بلفظ الجدال وأخرى بلفظ التحاج وثالثة بلفظ المراء.
إستخلف الله تعالى الانسان فى الارض وأناطه بعمارتها وكلفه بأمانتها، فزوده سبحانه بالقدرات والامكانات التى تمكنه من إيصال رسالته وتعينه على أداء مهمته، التى أبت من حملها المخلوقات، فأشفق الله منها فحملها الانسان، فهذه القدرات المميز بها الانسان عن نظائره من المخلوقات الاخرى، إنما هى إشفاقا من الله على هذا الانسان الظلوم الجهول.
والانسان مدنى بطبعه لا يعيش الا داخل جماعة من بنى جنسه يتفاعل معهم، يؤثر فيهم ويتأثر بهم، ويأتى الجدال كمطلب من أهم متطلبات هذا التفاعل، وذلك لحكمة بالغة وغاية نبيلة فى إستجلاب الحقوق ودفع المظالم، وإعلاء الحق بحق ودحض الباطل بلا باطل.
ولهذه الحكمة السامية كان الانسان وما يزال أكثر شىء جدلاً، فى عموم المخلوقات، قال عنه ربه: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا } [الكهف:45]، بيد أنه سبحانه دعاه الى الإيمان به وإتباع شرعه، لضبط هذه الغرائز وتنظمها بعيداً عن القمع والكبت أو الإسراف وإطلاق العنان، وأما حينما ينزوى الانسان عن دائرة الايمان تتمكن منه غرائزة وتسيطر عليه سيطرة تامة، فتقيد عقله وتجعله فى مهمة إشباعها وتهيمن على جوارحه، وتشغل قلبه، فيصير أسير تلك الغرائز، وبذلك تفقد وظيفتها وتنحرف عن مهمتها من مجرد وسيلة ضرورية وإشفاقاً من الله تعالى على ذلك المخلوق لتحقيق غاية العمارة، الى غاية فى حد ذاتها، فيرتد الانسان من ذلك المخلوق المكرم الى درجة أحط من درجات البهيمية.
إذن الجدال ينطوى ضمن الغرائز المزود بها الإنسان خليفة الله فى الإرض لتعينه على حمل تلك الامانة، فما موقف الإسلام منه؟ وكيف ضبط الإسلام تلك الغريزة؟
والمتأمل لمصدرى التشريع الإسلامى يجد أن النصوص تتعامل معه تارة على أنه مباح ومحبوب وأخرى على أنه مذموم ومكروه، فلنأخذ كل نوع منهما بالتحليل:
= أولهما: الجدال المحبوب:
وهذا اللون من الجدال قد جاء وصفه فى القرآ الكريم مرة بأنه أحسن: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[العنكبوت:46]، وثانية بأنه عن علم: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [آل عمران:66]، وأخيرة بأنه ظاهر: {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا} [الكهف:22].
والأصل فى الجدال أنه مذموم لورود أكثر الايات فى ذمه إلا فى الثلاثة السابقة، ومنها نستخلص سمات وشروط الجدال المباح وهى:
ـ أن يرجى من المجادل عدم العناد وإتباع الهوى، بل تبدوا عليه أمارات التجرد وعلامات التعقل، أما المعاندين المكابرين فجدالهم مذموم محظور، {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة:150] بعنادهم وإصرارهم على الباطل.
وإذا الخصمان لم يهتديا *** سُنَّةَ البحثِ عن الحق غبر
ـ أن يكون الجدال بالتى هى أحسن من الرفق ولين الجانب وعدم التعالى والغرور، وإلا كان مذموماً، لأنه سيؤل الى مفاسد عظيمة وأضرار بالغة.
ـ أن يكون عن علم وبصيرة بموضوع الجدال، وإلا كان ممقوتاً وكان شره مستطيراً، وسيأتى بيانه إن شاء الله، {فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [آل عمران:66].
ـ أن يكون موضوعه ذو قيمة وأن يبتغى من طرحه للحوار جدوى وفائدة عامة، كدفع ضرر شديد أو إستجلاب خير وفير، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ والدارمي، وصححه الألبانى فى المشكاة.
ـ أن يبحث فى جوهر الأمور ولا يتطرق الى ثناياها، وأن يكون فى صلب الموضوع ولا يحيد الى النقاط الفرعية، {إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا} [الكهف:22].
وهذا هو الحوار البناء الذى يخاطب العقل ويلتمس الإقناع، ويتمثل فى الدعوة الى الله وإئتلاف قلوب العباد وترغيبهم فى الخير وفضائلة، وتنفيرهم من الشر وغوائله، والأمر بالمعروف بمعروف، والنهى عن المنكر بلا منكر، والحض على فعل الواجبات وإجتناب المنهيات، قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].
ويشيع هذا النوع فى الأوساط العلمية، بين العلماء بعضهم البعض، وبين الدعاة وبين أهل الديانات الأخرى، ويتخذ من المنهج المقارن أسلوباً له، وغالباً ما يكون فى المسائل العقدية والعلمية.
ومن سمات هذا النوع أن صاحبه يبحث دائماً عن نقاط الإتفاق ويبنى عليها، ولا يركز على مواطن الخلاف ليقيم عليها، فتتسع الفجوة وتزداد الهوة وينشأ التنافر، بما يفضى فى النهاية الى الكراهية والخصام.
= والأخير: الجدال المذموم:
وهو الذى يغلب على أصحابه حب النفس وإتباع الهوى من أجل إشباع عريزة الحاجة الى الظهور والتميز عن الاخرين، فيغلب عليهم التعصب الاعمى ويسيطر عليهم الغضب، مما يفضى فى النهاية الى المنازعة والمخاصمة، وربما ادى الى أسواء من ذلك.
ويشيع هذا النوع بين عامة الناس وبسطائهم الذين لم يحصّلوا قدرا كافيا من العلم والثقافة، فما أن يطرح أحدهم موضوعاً ما إلا ويسارع المحيطين بإدلاء آرائهم وطرح أفكارهم، وبنفس السرعة يتحول الحضور الى فريقين مؤيد ومعارض، ويسير الجدال فى مثل هذه الظروف فى عدة مراحل من السئ الى الاسوأ.
•= يحاول كل طرف أن يثبت تفوقه وأن رأيه صواب لا يحتمل الخطأ وأن رأى الطرف الاخر خطأ لا يحتمل الصواب.
•= إن كان فى الجلسة أكثر من أثنين تحول الامر الى فوضى، كما لو كانت سوقاً مملؤا بالصخب والضجيج، حيث يتسابق الجميع الى الكلام ومن ثم تعلوا الاصوات وتتداخل.
•= إن لاح لأحد الطرفين أن نظيره أقوى حجة منه وأبين دليلا منه، سارع بالنيل من الاخر والتجريح فى شخصه والتقليل من شأنه بسخرية وإستهزاء، محاولاً صرف الأنظار بعيداً عن الموضع حتى يتسنى له الظهور عليه.
•= أما الطرف المستهان به فلن يرضخ لمثل ذلك، فتراه تارة يدفع عن نفسه وأخرى يهاجم الاخر بمثل صنيعه.
وقد ذكر الإمام النووى بعض صور الجدال المذموم التى ربما تغيب عن أذهان البعض، حيث قال: فإن قلت: لابد للانسان من الخصومة لإستبقاء حقوقه.
فالجواب ما أجاب به الإمام الغزالي: أن الذم المتأكد إنما هو لمن خاصم بالباطل أو بغير علم، كوكيل القاضي، فإنه يتوكل في الخصومة قبل أن يعرف أن الحق في أي جانب هو فيخاصم بغير علم.
ويدخل في الذم أيضا من يطلب حقه، لكنه لا يقتصر على قدر الحاجة، بل يظهر اللدد والكذب للايذاء والتسليط على خصمه، وكذلك من خلط بالخصومة كلمات تؤذي، وليس له إليها حاجة في تحصيل حقه، وكذلك من يحمله على الخصومة محض العناد لقهر الخصم وكسره، فهذا هو المذموم، وأما المظلوم الذي ينصر حجته بطريق الشرع من غير لدد وإسراف وزيادة لجاج على الحاجة من غير قصد عناد ولا إيذاء، ففعله هذا ليس حراما، ولكن الأولى تركه ما وجد إليه سبيلا، لأن ضبط اللسان في الخصومة على حد الإعتدال متعذر، والخصومة توغر الصدور، وتهيج الغضب، وإذا هاج الغضب حصل الحقد بينهما، حتى يفرح كل واحد بمساءة الآخر، ويحزن بمسرته، ويطلق اللسان في عرضه، فمن خاصم فقد تعرض لهذه الآفات، وأقل ما فيه إشتغال القلب حتى إنه يكون في صلاته وخاطره معلق بالمحاجة والخصومة فلا يبقى حاله على الاستقامة، أ.هـ -الأذكار، النووى، ص:371.
ومن ثم فإن الجدال على النحو مجلبة للعداوة وذريعة للكذب وباباً من أبواب الفتنة وإتباع الهوى وسبباً من اسباب التفكك الإجتماعى من جراء التعصب الذى يؤل الى التنابز والتنافر وتنامى الحقد والكراهية.
ومن آثاره أيضاً تغليف القلب بالقسوة ونزوع الخشية، وكراهية الحق فى جانب المغلوب، وتنامى الغرور والكبر فى جانب الغالب، فضلاً عما يجلبه للنفس من هم وغم، من حيث أنه شهوة للنفس إذا ثارت لابد من إشباعها، وإلا أصابت صاحبها بالتوتر والقلق اللذان يؤلان الى الكدر والحزن.
قال النووى رحمه الله: قال بعضهم: ما رأيت شيئاً أذهب للدين، ولا أنقصَ للمروءة، ولا أضيع لِلَّذة، ولا أثقل للقلب من الخصومة.
وقال عبدالله بن حسين بن علي رضي الله عنهم: المراء رائد الغضب، فأخزى الله عقلاً يأتيك بالغضب.
والان يلوح فى الافق سؤالا هو ثمرة البحث، كيف تعامل الإسلام مع هذه الظاهرة؟ لعلنا قد أشرنا أعلاه الى ضوابط المباح، وان الأصل فيه الذم وهو ما عليه أكثر النصوص، لذلك فقد حذرت النصوص القرآنية منه أيما تحذير، ونفرت منه أشد تنفير، ودعت كذلك لمجانبة أهل الأهواء وعدم الخوض معهم فى جدال لا يرجى منه خير.
وقد جعل النبى صلى الله عليه وسلم الجدال علامة الضلال بعد الهداية، ومؤشر الإنحراف عن الجادة، لما يترتب عليه من آثار موبقة ونتائج مهلكة، فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ»، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} رَوَاهُ أَحْمد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه، وصححه الالبانى.
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن ذلك الرجل التى لا تهدأ عنده غريزة الجدال، بل تظل ثائرة لأتفه الأمور ويشتد في خصومته، ويجادل حتى يجدل خصمه ويقهره بأنه والعياذ بالله الأبغض الى الله، فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللهِ الأَلدّ الْخِصَم» متفق عليه.
وقد توعد النبى صلى الله عليه وسلم ذلك الصنف الذى يصر على الجدال فى الباطل رغم علمه به، قال صلى الله عليه وسلم: «ومن خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط الله حتى ينزع» أبو داود وصححه الألباني، ويدخل فى الوعيد المحامى الذى ينوب عن المبطل وهو يعلم أنه مبطل.
إن ما سبق من نصوص يتعلق بالنوع المحظور، أما النوع المباح الذى يشيع بين العامة فقد رغب النبى صلى الله عليه وسلم فى تركه، لانه من دواعى الفطرة فيثقل على النفس تركه، كذلك جاء الترغيب فى تركه من باب درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، ولأنه يعلم أنه صنو الضلال والإنحراف، قال صلى الله عليه وسلم «أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًا» أبو داود وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة، قدم النبى صلى الله عليه وسلم الوقاية على العلاج، وإستأصل الداء قبل نشؤه، وحل المشكلة قبل وقوعها.
ولما كان هذا هو شأن الجدال والمراء، فقد تجنب السلف الخوض فيه، وحذروا منه، وورد عنهم آثار كثيرة فيه، نذكر بعضاً منها:
= قال ابن عباس رضي الله عنهما: كفى بك ظلماً ألا تزال مخاصماً، وكفى بك إثماً ألا تزال ممارياً.
= وقال ابن عباس لمعاوية رضي الله عنهما: هل لك في المناظرة فيما زعمت أنك خاصمت فيه أصحابي؟ قال: وما تصنع بذلك؟ أَشْغَبُ بك وتشغب بي، فيبقى في قلبك ما لا ينفعك، ويبقى في قلبي ما يضرك.
= قال الحسن إذ سمع قوماً يتجادلون: هؤلاء ملوا العبادة، وخف عليهم القول، وقل ورعهم فتكلموا.
= وقال ابن أبي الزناد: ما أقام الجدلُ شيئاً إلا كسره جدلٌ مثله.
= وقال الأوزاعي: إذا أراد الله بقوم شراً ألزمهم الجدل، ومنعهم العمل.
= وقال الصمعي: سمعت أعرابياً يقول: من لاحى الرجال وماراهم قلَّتْ كرامته، ومن أكثر من شيء عُرِف به.
= وأخرج الآجُرِيُّ بسنده عن مسلم بن يسار رحمه الله أنه قال: إياكم والمراءَ، فإنه ساعةُ جهلٍ العالم، وبها يبتغي الشيطان زلته.
= وأخرج أن عمر بن عبدالعزيز رحمه الله قال: من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل.
= كان أبو قلابة يقول: لا تجالسوا أهل الأهواء، ولا تجادلوهم؟ فإني لا آمن أن يغمسوكم في الضلالة، أو يلبسوا عليكم في الدين بعض ما لبس عليهم.
= جاء رجل إلى الحسن فقال: يا أبا سعيد، تعال حتى أخاصمك في الدين، فقال الحسن: أما أنا فقد أبصرت ديني، فإن كنت أضللت دينك فالتمسه.
= كان عمران القصير يقول: إياكم والمنازعة والخصومة، وإياكم وهؤلاء الذين يقولون: أرأيت أرأيت.
= دخل رجلان على محمد بن سيرين من أهل الأهواء، فقالا: يا أبا بكر، نحدثك بحديث؟ قال: لا، قال: فنقرأ عليك آية من كتاب الله عز وجل؟ قال: لا، لتقومن عني أو لأقومنه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد!
الكاتب: محمد سلامة الغنيمى.
المصدر: موقع صيد الفوائد.